يوسف ابو عالية
| لم يسعفني المعجم المعاصر بلفظٍ أكثر صدقا من لفظ «شيطنة» لوصف ما
يواجهه الإخوان المسلمون من حملات تشهير وتشويه ممنهجة، تلك الحملات التي
تأتي في سياق عملية سياسية أوسع قد يصح أن نسميها «هندسة المجتمع والوعي
السياسي المصري من جديد»، والتي بدأت تظهر معالمها تدريجيا منذ فوز مرسي
بالانتخابات الرئاسية، حتى باتت جلية واضحة بعد تدخل جنرالات الجيش في 3
يوليو وما تلى ذلك من مكارثية مضحكة!
وبإيجاز
نقول أن عملية «الهندسة» هذه تهدُف إلى إعادة ترتيب البيت من جديد بشكل
يرضي الدولة وأجهزتها وجنرالات الجيش والقضاء ورجال الأعمال وباقي أصحاب
المصالح الذين عانوا كثيرًا منذ فبراير 2011، فكان من أغراضها مثلا إظهار
الثورة والحرية النسبية التي تلتها كـ «الكابوس» الذي كان يجب أن يجربه
الشعب ليدرك أن الإصلاح والتغيير الجذري بمثابة الوهم، وأن الوسيلة الوحيدة
للإصلاح هي اتباع المسار التغييري الذي تفرضه الدولة الفاسدة، كالفأر الذي
يجب أن يسير وفقا لمسارات «المتاهة» الموضوعة والتي توصله متأخرا إلى قطعة
جبن يكتشف أنها قد فسدت!
لكن ولأن الجنرالات لا يستطيعون إعادة عقارب الساعة إلى
الماضي القبيح، فقد قرروا إنتاج نسخة معدّلة من الوضع المباركي يتوافر فيها
«أوبشن» الانتخابات الحرة النزيهة –هُما اللي بيقولوا!- بعد إعادة ضبط
موازين القوى السياسية المنافِسة والقواعد الشعبية لها، فالدولة القديمة
تدرك أن فترة حُكم المجلس العسكري كانت كفيلة بـ ردّ جزء كبير من الأغلبية
الكاسحة المهللة بالثورة إلى دينهم القديم [الرضا بالاستقرار في القاع
السحيق]، حتى أصبحت كفة الثورة تميل بأغلبية بسيطة إلى التغيير والإصلاح،
فجاءت فترة حُكم مرسي –بتعقيداتها- لتفكك الأغلبية المؤيدة للثورة بين
جماعة الإخوان المسلمين بقاعدتها الشعبية المتقلصة، وبين التيارات الثورية
الساعية نحو الإصلاح كأقلية محدودة، وكانت الخطوة التالية في عملية
«الهندسة» هي وضع الكتلة الضخمة المؤازرة للدولة ومعها التيارات الثورية
المحدودة في مأزق الاختيار بين كتلة الإخوان أو كُتلة الدولة، أو بعبارة
أخرى بين «الإخوان» و«اللا ثورة».. ولذا جاءت فكرة إزاحة مرسي وإقصاء
الإخوان تماما عن المشهد الإعلامي، وغلق معظم المنافذ المحتملة لهم، وتشويه
المنافذ الباقية واعتقال الرؤوس المحركة لتظاهراتهم، واستخدام الترهيب
والقمع، حتى أصبحت الساحة الإعلامية الغالبة شبه خالية، لتبدأ مرحلة جديدة
في «هندسة المجتمع والوعي العام» لترجيح الكفة السياسية إلى «اللا ثورة»،
ولا شك أن عمادها الرئيسي هو التشهير بالإخوان [الكتلة الأضخم في المعارضة]
وتشويههم تماما في أعين الرأي العام، أو بصورة أصدق؛ شيطنتهم!
كيف يمكننا تعريف الشيطنة؟
لا يرضى اللغويون تمام الرضا عن استخدام لفظ «شيطنة»
و«أبلسة» للتعبير عن فكرة التشويه والافتئات المنهجي والمتعمد والمغرض
لصورة كيان ما، ويرون أنه من الأصح استخدام ألفاظ أصيلة أخرى مثل «التبشيع»
و«التشويه» و«نشر الأراجيف والتخرصات» أو حتى التنفير من شيء ما والحط من
شأنه.. لكن موقفهم هذا لا ينفي أن المصطلح بات شائعًا في المعجم المعاصر
وصار الأقدر على التعبير عن حملات التشويه المرتجلة والممنهجة التي
يستخدمها البعض ضد مخالفيه وأعدائه، ويعد هذا أفضل تعريف للشيطنة.
والحياة تعلمنا أن التاريخ يكتبه المنتصر، والواقع أيضا يتشكل
وعي المجتمع به على يد الأقوى والأقدر على تسويق فلسفته مهما كانت غير
بريئة، وكذلك ما يخص صورة “خصمه” في أذهان الشعوب، وفي حملات الشيطنة لا
يتوانى الإعلام عن اصطياد كُل شاردة وواردة من شأنها أن توضَعْ في صحيفة
الإخوان الجنائية التي تُصدَّرها السُلطة بآلتها الإعلامية الضخمة في وجه
المجتمع طوال الوقت وبلا توقف، فلا يُدَّخر جهد في كيل الاتهامات لهم؛
فيُنعون بالإرهاب والتشدد والوحشية وبعض المحسِّنات التكميلية اللازمة
لتقبيح الصورة، ومن ثم تنوعت الخِصال التشويهية بين الإرهاب والوحشية
والعمالة والدياثة والتطرف وأحيانا الخبل، وسأحاول في هذه التدوينة رصد بعض
أوجه «الشيطنة»، والتقاط بعض الأمثلة لها ومناقشتها.
الوحشية .. Reel Cruel MuslimBrethren :
في كتابه (عصر التشهير بالعرب والمسلمين) كتب د. جلال أمين عن
تطور تصوير وتشويه الخصوم والأعداء [الألمان ثم الألمان واليابنيون، ثم
الشيوعيون] في أذهان الغرب، وقال عن المبالغة في التشهير بالشيوعيين مثلا :
«..وحلت الشيوعية محل النازية والفاشية، وصورت الشيوعية والحُكم الشيوعي
على نحو لا يختلف كثيرا عن صورة الحُكم النازي أو الفاشي، وهو ما دفع
خروتشوف إلى الصياح مرة في جلسة من جلسات الأمم المتحدة بأنهم في روسيا (لا
يأكلون الأطفال)»، فيسرد المفارقة كإيضاح لما وصلت إليه صور الشيطنة
والمبالغة في اتهام الشيوعيين بالوحشية.
في مصر أيضا أصبحت صفة «الوحشية» مفروغًا منها حين يتعلق
الأمر بالإخوان، وتُساق لها عشرات الوقائع المؤكدّة والتي يعرضها إعلام
الشؤون المعنوية ليل نهار، منها مثلا أن الإخوان يلقون الأطفال من أعلى
الأسطح، والتي تسارعت قنوات اليوتيوب إلى اتهام الإخوان بالواقعة، وتعميم
التهمة، على الرغم من أن المتهم اتضح بعد القبض عليه أنه سلفي جهادي
وليس إخوانيا وأنه صعد بسبب الحجارة التي كانت تقذف على المتظاهرين، وبدا
في شريط الفيديو نادما تماما عن ما فعله، لكن المنافذ الإعلامية لم تتوانى
عن إدراج الفعل كفعل وحشي يتبناه التيار الغالب من الإخوان المسلمين.
كذلك نتذكر واقعة سقوط مدرعة للشُرطة، تحت عنوان ضخم “ الإخوان يلقون بمدرعة شرطة من فوق كوبري أكتوبر ويمثلون بجثث المجندين “، ثم يمتنع الإعلام عن نشر الفيديو الكامل الذي يوضح حقيقة ما حدث، وأن قائد المدرعة شرع في دهس متظاهرين، ثم عاد بنفسه هربا من المتظاهرين وسقط!
من أكثر الوقائع التي أثارت الجدل أيضًا كانت واقعة صفع السيدة المسنة :
ولن أردد هُنا ما يزعمه البعض –التواءًا- من أنها كانت تمثيلية وأنها كانت مؤجرة للاعتصام أمام الاتحادية لتسب مرسي : أو أنها هي نفسها السيدة الكومبارس التي ظهرت في كليب “دقت الساعات” لمطرب (!) الشؤون المعنوية وإمبراطور الشحتفة في ميكروباصات العاصمة والأقاليم :
[واضح أنها سيدة أخرى فعلا]، لن أردد كل هذا، بل سأفترض
–جدلا- أن الشاب كان إخوانيا، وأن الواقعة كانت حقيقية وليست تمثيلية، وأنه
صفعها بوحشية، وليس برد فعل عفوي وملاوشة فقط دون أن يمسها، سأفترض أن كل
ذلك صحيح، ولا أكترث؛ هناك شاب أهوج صفع سيدة فاضلة وألقت الشرطة القبض
عليه، وفي طريقه للعدالة، ما المشكلة؟! ما أتوقف أمامه حقًا هو هذا
الاستثمار المشبوه للواقعة في منافذ إعلام الشؤون المعنوية، كفرصة لتحسين
وجه السُلطة الفعلية (المتمثلة في الفريق السيسي) وتشويه المعارضة
(المتمثلة في الإخوان)، يظهر هذا الاستغلال المبتذل في التغطية الإعلامية،
إذ تم نشر الواقعة في جميع الصحف، ثم أفردت (المصري اليوم) خبرا
عن لقاء السيسي بالحاجة عواطف وتطييب خاطرها، ليظهر السيسي في ثوب
«الفتوة» الشهم، الذي ينتصر لسُكان الحي «الغلابة» المستضعفين، ويثأر لهم
من الإخوان المجرمين.. وخُصِّصت لها ساعات كاملة في برامج التوك شوز، إذ
استضافها أحمد موسى على قناة التحرير وخصص لها حلقة حصرية ، ثم استضافتها حياة الدرديري على قناة الفراعين ، وخُصصت لها فقرة على قناة القاهرة والناس !
فجأة ظهرت السُلطة العسكرية في ثوب الغاضب من أجل المصفوعين،
مع أن السيسي كان معينا في عهد مبارك على رأس أخطر الأجهزة السيادية
«المخابرات الحربية» وظل كذلك إبان عهد المجلس العسكري، فلم يُسمع له صوتًا
إزاء تعذيب المواطنين في أقسام الشُرطة في عهد مبارك، ولا جنوده الذين كانوا يتبولون على المتظاهرين في عهد المجلس العسكري، ولا الذين جردوا الفتاة من ملابسها ، ولا من اعتدوا على السيدة عزة هلال التي حاولت الدفاع عن الفتاة .. وكذلك لم يكن له ولا لإعلام الشؤون المعنوية أي موقف أو «حِس» إزاء الاعتداء على أحد أنصار مرسي بالتحرير، ولا تجريد أحد الملتحين بمحطة السادات، المقطمولا و الرجل الملتحي أمام مكتب الإرشاد ومن معه، ولا فتاة الاتحادية ،أحد الملتحين وزوجته بالدقي ولا ،ولا شهيدات المنصورة،
ولا مئات الوقائع التي تملأ مواقع الانترنت وفيديوهات اليوتيوب، والتي لا
تنشرها صحف الشؤون المعنوية إلا بعناوين مؤدلجة، فالاعتداء على ملتحي يعني
“القبض عليه”، وسحل أحد أنصار مرسي يعني “اشتباكات” وهلم جرا.
كل الوقائع المنتشرة لم يكن هناك موقف من السُلطة ولا السيسي
ولا إعلامه إزائها، فالمواطنون ليسوا سواءًا في نظر السُلطة ولا الإعلام،
وكرامة ميرفت موسى والحاجة عواطف وشاهندة مقلد وغيرهن ليست ككرامة عزة هلال
ولا عشرات الإخوان والملتحين والمنتقبات، فالسُلطة لا تكترث بكرامة أحد
أصلا، كل ما في الأمر أن المعتدي في الحالات الأولى محسوبٌ على تيار ما لا
ترضى السُلطة وأصحاب المصالح عنه، فمثلت تلك الحوادث فرصًا مواتية للنيل من
التيار ككُل وشيطنته!
وكان من أظرف الوقائع التي نصادفها أيضا خبرا نشرته السيدة «بثينة كامل» على حسابها المعروف بتويتر بعنوان [الإخوان يستخدمون الكلاب الصغيرة كقنابل يلقونها على الجيش]، لم يلق الخبر رواجًا كبيرا، ربما لأن مصادره كانت بالإنجليزية، لكن قصته تقول أن سيدة فاضلة إسمها «ميرفت سعيد» تواصلت مع «روبين أورمان» أحد المتطوعين لإنقاذ الكلاب المعرضة للخطر وقالت له أن الإخوان المسلمين يستخدمون الكلاب الصغيرة كقنابل (أو قذائف حارقة) في تظاهراتهم بالتحرير، وإن 10 إخوان ملتحين حاصروا 20 كلبا وسكبوا عليهم البنزين وأشعلوهم وألقوهم على الجيش المصري، وأن 3 كلاب فقط تم إنقاذهم وتم نقلهم إلى نيوجيرسي بالولايات المتحدة حيث الفردوس الأرضي الرحيم بضحايا وحشية الشرق!
الخبر نشره موقع (بِت فايندر) في هذا اللينك وتلقفه ونشره موقع إخباري بإحدى الدول العربية الشقيقة وهو (إزريل ناشيونال نيوز) الإسرائيلي في هذا اللينك ثم نقلته عنه صحيفة بريطانية كبيرة في هذا اللينك !ومن
ثم تناقل الخبر بعض معارضي الإخوان هُنا للتشهير بوحشيتهم.. مع أن الخبر
لا يوجد عليه أي دليل (صورة – تسجيل فيديو – بلاغ رسمي تم البت فيه) إلا
رواية نقلتها سيدة مجهولة (لا تنطق عن الهوى) لصحفي أجنبي (لا يأتيه الباطل
من بين يديه)، نفس الإخوان بقسوتهم هم من حالوا بين «مُنــى» وبين (الزرافة!) كما تدعي صحيفة الوطن!
أما قصة الجثث المدفونة تحت منصة رابعة فلا تخفى على أحد، وأحيلك إلى هذه التدوينة القديمة التي توضح حقيقة الأكذوبة.
ولا يكتمل وصف «الوحشية» إلا حين يقترن بـ «الشراهة» في تناول
الطعام، فالبطل الشرير في سينما الستينات كان يُصوّر دائما وهو يأكل بنهم
وشراهة، وكذلك كُفار قريش في الأفلام الدينية، وربما لهذا حرِص بوق السُلطة
القديمة والجديدة «مصطفى بكرى» على التنويه بأنواع الأطعمة التي كان
يتناولها مرسي ومساعدوه خلال وجودهم في الحُكم ( جمبري واستاكوزا بـ 1000 آلاف جنيه يوميا ) وفي رواية أخرى لنفس الشخص ومع نفس المذيعة ( فتة يوميا )
وفي السجن (بط وفريك!).. للإيحاء بأنه «مفجوع»، فتترسخ أسوأ صورة ممكنة
عنه في الأذهان، ولا أحد بالطبع سيسأل «مصطفى بكري» -الذي يملأ الفضاء
الإعلامي بحكاويه المرسلة- عن دليل ادعاءاته الهامشية هذه ولا عن مصدره،
فهي شيمة المرحلة، ورب البيت يرعى ذلك ويباركه!
الإخواني إرهابي بطبعه :
هناك حزمة من الهواجس والروابط الذهنية والإيحاءات
والاستنباطات التي دأب الإعلام على تكوينها لتمثل الخريطة الإدراكية
للمواطن الذي لا يمتلك وقتا ولا قدرة ولا طاقة للبحث والتدقيق والتقصي
والتفكر، هذه الحزمة مثلا تفترض أن للإخوان علاقة مباشرة بالعنف الذي يقوم
به (المجهولون!) –الذين لا يتم القبض عليهم أبدًا- فيستهدفون الكنائس
وأقسام الشرطة وحافلات المجندين المهمشين والعُمال الغلابة، فيقع الإيحاء
بأن هؤلاء الأفراد المجهولين هم أبناءُ جماعة الإخوان المسلمين، وأحيانا
أنهم ليسوا من التنظيميين بل أبناء جماعات جهادية تكفيرية يحركها قيادات
جماعة الإخوان [ودليلهم دائما هو فيديو البلتاجي الذي يُعرض باستمرار ويقول فيه "نحن لسنا المتحكمين في الأرض، لكن
هذا الذي يحدث في سيناء، ردًا على الإنقلاب العسكري، يتوقف في الثانية
التي يعلن فيها عبدالفتاح السيسي أنه تراجع"، وهو الذي فُهم بأنه تدليل على
تحريك الإخوان للعنف وليس مجرد استنباط طبيعي مفاده "إذا كان هناك حقا
جهاديون يفعلون ذلك منذ الإطاحة بمرسي، فالطبيعي أنهم سيتوقفون بمجرد
عودته!" وهو أمر يتشابه مع تغريــدة للبرادعي
قال فيها أن العُنف في بورسعيد سيتوقف حين يستمع الرئيس (مرسي آنذاك)
لمطالب أهلها، فكان استنباطًا منطقيا، وليس دليلا على تحريك العُنفْ] ..
وأحيانا أخرى يُفترض أن هؤلاء المجهولين ليسوا أبناءا للجماعة ولا يوجد
اتصال مباشر بينها وبين قيادات الإخوان، ولكن الإخوان –أو كُل من يطلق
عليهم هذا الوصف الفضفاض- يباركون هذا العُنف ويسعدون به!
تبدو كل تلك الافتراضات بلا منطق، ولا يعضدها سوى دليل مادي
ملموس [وهو غير موجود] أو شيطنة ممنهجة للإخوان من قبيل «ياختشي الإخوان
يعملوا أي حاجة!» [وهو المتوافر حاليا]، أما إذا رددنا الأمر إلى العقل
والمنطق وتجردنا عن الأهواء والهواجس فسنجد تساؤلات جدية عديدة، منها مثلا
أن الإخوان يدركون جيدًا أن هذا العُنف لن يضر الجنرالات في شيء، بل سيُقلص
شعبية الإخوان في الشارع، وستجيد الدولة استغلاله –بما لديها من آلة
إعلامية ضخمة- لتشويه صورة الإخوان لعقود طويلة قادمة، وسنجد أيضًا أنه من
الصعب –للغاية- أن جهاديًا مهما بلغَ خبله قد يقتل مجندين أو عُمال غلابة
ليس لديهم أي خصومة حقيقية معه، وأن أغلب العُنف المرتكب يكون ضد القيادات
والرموز الاقتصادية الكبيرة، حتى منطق الثأر عند «الصعايدة والعرباوية»
يستند على نفس المبدأ العام.. وسنجد أيضًا أن أمن سيناء كان مسؤولية
المخابرات الحربية التي رأسها السيسي منذ عهد مُبارك، وكذلك المخابرات
العامة والداخلية، التي لم يتولى رئاستها أي من الإخوان المسلمين، ولا نفوذ
لهم في أي منها، وبالتالي تعد تلك الجهات الأمنية هي المسؤولة عن كل هذا..
وسنلاحظ أيضًا أنه لا يتم القبض أبدًا على هؤلاء المنفذين، ولا كشف حقيقة
اتصالهم بالإخوان، اللهم إلا باستثناء عادل حبارة.
إن تفسير العنف في سيناء –مثلا- مرهون بخيوط كثيرة معقدة لا
يمكن فكها بسهولة، وتعلمنا تجارب البلدان الأخرى (تركيا والجزائر) أن العنف
أحيانا لا يكون بيد المعارضة، وأحيانا كثيرة يكون بيد الأمن نفسه، ولا
نميل لهذا الزعم لأنه لا توجد عليه براهين حقيقية، لكن ما نميل إليه هو أن
الأمر برمته لا يزال يقبل كل الاحتمالات؛ ربما يكون العنف من الأمن فعلا
وأن هناك جهة أمنية مسؤولة عن تدبيره وافتعاله وتوجيهه [كالمكتب الحربي
الخاص الذي تحدث عنه كِرم أوكتم في كتابه "تركيا أمة غاضبة".. أو
كالمجموعات التي تولت تدبير العنف وإلصاقه بالإسلاميين كما قال الضابط
الجزائري حبيب سويدية في كتابه "الحرب القذرة"] والكتابان مليئان بالأمثلة
الموثقة المعروفة التي اكتشفها الأتراك وبعضُ الجزائريون بعد عقود طويلة من
الغموض.. وقد يكون لتجار المخدرات والسلاح في سيناء يدٌ في تدبير العنف
لأغراض معينة تتعلق بنشاطاتهم.. حتى الأنفاق مع غزة قد تكون مجرد تجارة
واسعة يرعاها كبار ضباط المخابرات أنفسهم، كل الاحتمالات قائمة، ولا يمكن
ترجيح أيّها بناءا على الأهواء والهواجس!
ويتفق هذا مع مقال كتبه د. جلال أمين –وهو الدارس المخضرم للمجتمع المصري- عن غموض أسباب العُنف الدائر في الشوارع، والذي خلُص في نهايته إلى ما عبّر عنه قائلا «كل
هذه القسوة التى اتسمت بها هذه الأعمال وغيرها ليست قسوة مصرية. وإنما
القادر على التخطيط لها فى مصر، عقول غير مصرية. هى فى رأيى نفس العقول
التى خططت ومازالت تخطط لأعمال مشابهة فى القسوة، بل وأقسى منها، فى العراق
وسوريا وليبيا وتونس. هذا هو التفسير الذى ارتاح إليه عقليا، أكثر من أى
تفسير آخر، ولكننى كلما فكرت فيه امتلأ قلبى غضبا وأسى، على ما وصل إليه
حال العالم، وما يسمى أحيانا بـ«المدنية الغربية»
وهناك أمثلة عديدة لغموض ظاهرة العُنف، فمتحف ملوي مثلا حين
نُهبت منه 1050 قطعة أثرية، سارع البعض بنسب التهمة إلى الإخوان وأنصار
مرسي، وتجاهل أي فرصة لضلوع مهربي الآثار في تدبير الفوضى والعُنف من أجل
تسهيل نهب المتحف!
حتى نهب فيللا هيكل، يحمل مفاجآت عديدة كتب عنها فهمي هويدي مقالا مهما عنوانه «درس في الشيطنة»
وهو نفسه الذي كتب تعليقا لا يقل أهمية عن حادث كنيسة الوراق
وتتوالى الاتهامات يوميا ضد الإخوان فيُتهمون بنهب “بي تك” وفندق “ليدو” و “خير زمان” ومئات من وقائع النهب التي لا تُحصى، و الموجودة على موقع الهيئة العامة للاستعلامات الناطق باسم السُلطة ضمن “عُنف الإخوان بعد فض رابعة”!
الخبل والدياثة :
أفضل الوقائع التي يمكن عرضها في هذا الشأن هو ما كشفته الإعلامية رانيا بدوي ووصفته بـ جهاد الأصابع :
، وقالت أن الإخوان يدعون إلى قطع إبهامهم لتخليد إشارة رابعة ثم تشرع في
نُصح الإخوان بالامتناع عن هذا الفعل ووعظهم بتأثر شديد وشفقة عليهم، دون
أن تحدد لنا من الذين يدعون لهذا بالضبط، وهل هُناك واقعة واحدة قطع فيها
إخواني إصبعه استجابة لهذه الحملة.. فقط صورة على الفيسبوك، وفي غالب الظن
أنها «بارودي»، شأنها شأن معظم مصادر الإعلام في تشويهه للإخوان، فتأتي
مثلا واقعة (مرسي رئيسي) لتضاف إلى صحيفة الخبل المزعوم، وأحيلك هُنا إلى حقيقتها
أما من جهة الدياثة، فلا تكتمل الصورة الأقبح للإخوان في ذهن
المصريين الغيورين على نسائهم بطبيعتهم إلا بذكر الجنس، فالإخواني لابد أن
يكون ديوثًا، ولحسن الحظ فهناك واقعة روّجها نظام بشار ضد الجيش الحُر ،
وهي جهاد المناكحة، فلا مانع من استيراد التهمة وإلصاقها بالإخوان حتى
تكتمل الشيطنة، وأحيلك هنا إلى مقال «فهمي هويدي» بعنوان
أكذوبة جهاد النكاح والذي يفند فيه أصل الأكذوبة ويرد عليها!
وإلى جانب هذا تُساق ترهات كثيرة من قبيل أن الإخوان هم سبب سقوط الأندلس .. آه والله!
اللا وطنية :
دائمًا ما تسعى الأنظمة الحاكمة إلى المزج بين النظام وبين
الوطن، وكذلك بين الجنرالات المتدخلين في السياسة وبين الجيش المصري، بصورة
تجعل الوطنية حِكرا تمنحه الدولة لمن ترضى عنهم فقط، ولذلك يعكُف إعلام
الشؤون المعنوية على اعتبار الأمن والمناصرين لممارساته مثالا حيا ينبض بحب
الوطن، بينما يأتي المعارضون في رتبة أخيرة!
قد يمتلك الإخوان مفهومًا مختلفا للهوية التي تحكم العلاقة
بالدول المحيطة، لكن هذا لا يعني أنهم أقل حبًا للوطن أو أكثر استهتارا
بترابه! وقد يكون لهم رؤية مختلفة لمنافسات الكُرة على عكس من يعتبرونها
مهمة قومية وأسمى آيات الانتماء، لكن هذا لا يعني –إطلاقا- أنهم أقل
انتماءا للوطن أو أقل فرحًا بانتصاراته في المنافسات الرياضية.. ولكن لأن
الإخوان أُزيح رئيسهم من الحُكم وباتوا في حُكم المعارضة المنبوذة، تحول
عدم اكتراثهم بهزيمة فريق كرة القدم دليلا على شماتتهم بالوطن (!)، وليس
بجهاز كروي قائم حاليا يجرّم إشارة رابعة ويعتبر إشارة السيسي «حاجة تانية»
و تعبير عن «إجماع وطني» مزعوم.. ولا كابتهاج بضياع فرصة التأهل التي كانت
ستلهي المصريين عن ممارسات السُلطة غير الشرعية –من وجهة نظرهم، وكذلك
واقعة حرق العلم بالتحرير والتي قام بها بعض المتظاهرين لسبب غير مفهوم،
فرغم تأكيد المتظاهرين على أنهم كانوا يبحثون عن أي شيء لإشعاله بسبب الغاز
المسيل للدموع (لا أدري ما العلاقة!) كان الإعلام يصر على إيراد الواقعة o في سياق لا وطنية الإخوان ..
هل الإخوان أبرياء تمامًا ؟
لا ليسوا كذلك، وهذه ليست محاولة لاصطناع الموضوعية، بل ما
نقتنع به فعلا، الإخوان ليسوا أبرياء تمامًا، ويقع على كاهلهم مسؤوليات
عديدة، وثمة معضلة هنا، فحين نفنّد تلك المسؤوليات ينبغي أن نصيغها في سياق
موضوعي يميّز بين دور الفرد ودور الجماعة المنظَّمة ودور الكوادر والرموز
العامة، دون أن ننغمس في قوالب المصطلحات التنظيمية التي لا تقدم شيئًا
مفيدًا سوى إظهار الإخوان في ثوب التنظيم الجهنمي المنعزل.
إن الفرد المنتمي إلى الجماعة –أو القريب منها- والنشيط معها
دعويا وخيريا والمقتنع بكثير من ممارساتها السياسية وبأنها الأقدر على تحمل
المسؤولية السياسية بعد الثورة – هذا الفرد ليست عليه أية مسؤوليات سوى
سلوكه الشخصي، وهو ليس مسؤولا عن سلوك من يقف إلى جانبه في تظاهرة أو يبيت
بجواره في اعتصام له مطالب سياسية يراد تحقيقها بوسائل سلمية معلنة، وفي
بعض الوقتيؤخذ على بعض الأفراد مآخذ عديدة،
منها مثلا الإصرار على جلب بعض الأطفال إلى أماكن اعتصام مهدد بفض وحشي في
أي لحظة، وقد يُبرَّر هذا بقول أن الأصل في الاعتصامات أن تكون آمنة
ومؤمَّنة من الداخلية، ولكنه ادعاء جدلِي يُهمل الواقع المصري المتمثل في
ممارسات الأمن وعملية التحريض الإعلامي ضد المعتصمين!
أما ما يؤخذ على التنظيم ككُل
فهو مسؤوليته الأخلاقية عن تأمين تظاهراته واعتصاماته، فدائما ما يتباهى
التنظيم بقدرته العظيمة على تنظيم فعالياته وتأمينها، بصورة تجعل كثيرا من
حالات العُنف الغامض الواقعة في بين السرايات والمنيل
وقسم بولاق وكرداسة والمنصورة (التي سبقتها تحذيرات كثيرة) وغيرها أمرا
غير مبررا، وكذلك ظهور السلاح في مشاهد عديدة (منها مشهد كوبري 15 مايو )ويؤخذ
عليه أيضا السماح باستخدام الأطفال في مسيرات «مشروع شهيد» التي أساءت
كثيرا إلى الاعتصام، وكذلك تلك الهتافات المازحة [مثل : الحكاية 6 إجوان ..
غانا غانا] التي لا يوجد تفسير لها سوى كونها محض محاولة إستعلائية
و«استظرافية» لاستفزاز قطاع شعبي يؤمن أن منافسات الكرة مهمة قومية.
ويؤخذ على الكوادر مآخذ أخرى عديدة منها ما يلي :
- أسلمة الصراع السياسي والتحالف مع رموز أصولية متشددة يتبنون خطابا تحريضيا : فقد
لا يكون للإخوان فعلا أي دور في التحريض على العُنف، لكن هذا لا يجعلنا
نهمل أنهم استضافوا على منصاتهم من أضفوا الصبغة الدينية على الصراع
السياسي وصوَّروا الخلاف في صورة حرب مقدسة، واستضافوا أيضًا من استخدموا
مفردات تحريضية مثل عاصم عبدالماجد وصفوت حجازي «اللي هيرش الرئيس مرسي بالميه هنرشه بالدم»
ولم يتبرأ قيادات الإخوان من هذه ولا تلك، بل تمادوا في صبغ النضال
بالصبغة الدينية بغرض تثبيت أنصارهم ومنع التهاون فيه، إذ المراجعة الفكرية
في الشأن السياسي قد تعتبر إجتهادا حرا، أما التخاذل في الحرب المقدسة
فإنه بلا شك بمثابة تفريط في الدين.. وكذلك لم يتبرأ القادة من تصريحات
صفوت حجازي ولا عاصم عبدالماجد، بل تركوهم يرددون ما يشاؤون وطفقوا هُم
يرددون «سلمية» و«سلميتنا أقوى من الرصاص» في تناقض مضحك! وكان ينبغي
–أخلاقيا- على د. البلتاجي مثلا ألا يستغل ما يحدث في سيناء كورقة أخرى
لإدانة تدخل الجنرالات، بل كان من الواجب أن يتبرأ في نفس الوقت من الفعل
وممن يرتكبونه.
- الفشل في تقديم أي حلول عقلانية مُرْضِية للأزمة : قد
نتفهم أن الوضع الذي فرضه العسكر بعد 3 يوليو [الإعتقالات التعسفية وإغلاق
القنوات والصحف واعتقال الإعلاميين واختطاف مرسي "بدور قرار من النيابة
آنذاك" وتعطيل الدستور وحل مجلس الشورى..وهلم جرا] – قد نتفهم أن هذا الوضع
جعل رضوخ الإخوان بمثابة انهزام سياسي تام، وقد نتفهم أنه كان لابد–في
نظرهم- من البقاء حينئذٍ بالميادين، لكن تسلسل الأحداث بعد ذلك بالتأكيد
كشف لهم عن منهجية التشويه وعن معالم خطة «هندسة المجتمع المصري»، مما نقل
الخصومة من مربع «صراع مع الجنرالات» إلى خندق «صراع مع جنرالات يؤازرهم
–عن جهل أو صواب- قطاعٌ مجتمعي كبير»، ومن ثم بات الإخوان والتيارات
المناصرة لمرسي تواجه عبء النضال ضد السُلطة المنقلبة على رئيسهم المنتخب
(2012) وعبء الدفاع عن صورتها أمام المجتمع وإيقاف نزيف التشويه والشيطنة
حتى لا يصل لدرجة يستحيل بعدها إعادة تصحيح الصورة! هُنا واجه القادةَ
مأزقٌ، وصارت تطاردهم أشباح عديدة؛ شبح التفاوض القديم مع عمر سليمان حول
بقاء رئيس منبوذ من المجتمع، وشبح التمادي في العناد (أو الصمود) من أجل
إعادة رئيس منبوذ أيضًا من «قطاع واسع» من المجتمع أيا كانت مشروعية الظروف
المؤدية إلى ذلك، لكن القادة اختاروا الاستمرار في مطالبهم المغالية [عودة
مرسي ومحاكمة الإنقلابيين ومن عاونهم من القضاة والإعلاميين
والمثقفين..إلخ] والتي استحال على القطاع الآخر قبولها –لأسباب مفهومة-،
فاستمرت نزيف الدماء في الميادين واتسعت دائرة تحالفات الإخوان، ومع حملات
«الشيطنة» في الإعلام احتدت كراهيتهم لدى جموع كبيرة من الشعب، مما عمق
الاستقطاب، حتى كاد يصبح انقساما كاملا.. وها نحن اليوم أمام نقطة خمول
ثوري، يحاول فيها العسكرُ إعادة الحياة إلى طبيعتها وإعداد مرحلة سياسية
جديدة «بالتفصيل» ولتبدو عواقب 3 يوليو كمجرد زوبعة فنجان هدأت بالتدريج
و«مسيرها تروح لحال سبيلها» قريبا [أحيلك هنا إلى رسالة عقلانية مبسّطة كتبها محمد أبوالغيط بعد
أسابيع من تدخل العسكر ووجَّهها إلى طرفيْ النزاع].. وما زال قيادات
الإخوان في عنادهم (أو صمودهم)، يعدون بعضهم بعضًا بمعجزة إلهية ناصرة، لم
ينتظرها النبي حين قدم تنازلات صُلح الحديبية، على أمل أن تتحقق المعجزة،
ويردوا كيد المثبِّطين في نحورهم!
كتبها: يوسف ابو عالية منقول من المرصد
إرسال تعليق
ياكريم نيوز | هو مواقع اخباري يهتم بالشان العربي والعالمي ينقل لكم الخبر كما هو
من مواقع اخر فتقع المسئولية الخبار علي المصدر