سوف
أحكي لكم فيما يلي قصة انتخاب شعوب أمريكا اللاتينية لرؤساء حمشين، وماذا
فعل هؤلاء الرجال الأسطوريين بالضبط ليعيدوا العسكر إلى ثكناتهم
ويعاقبوهم على جرائمهم. ثم سأعود بعد ذلك للحديث عن أزمة غياب الدكر
اللازم بين مرشحي الرئاسة في مصر.
بشكل
عام، الحكم العسكري بطبيعته يلجأ للقتل الجمعي لمعارضيه، ولا يمانع
التدمير حتى يحافظ على وجوده، ولا يحب الفقراء أو من يساندهم. صعدت مجالس
عسكرية للحكم في قارة أمريكا الجنوبية بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية،
وذلك أثناء الحرب الباردة في منتصف القرن الماضي.
لم
يعجب الولايات المتحدة انتخاب شعوب أمريكا اللاتينية حينئذِ لحكومات تدعو
للعدالة الاجتماعية، وإنصاف الفلاحين، والحد من نفوذ الشركات الرأسمالية
الأمريكية في بلادهم، وخشيت أمريكا أن تتحالف تلك الحكومات يسارية الهوى
مع الاتحاد السوفيتي عدوها، لذلك تواطأت مع جيوش العديد من الدول لتنفيذ
انقلابات عسكرية أتت للسلطة بجنرالات محافظين حلفاء لها.
كانت
الأرجنتين حالة قاسية مستعصية من حكم العسكر، صعد المجلس العسكري بها
للحكم عام 1976، واستمر في السلطة ثلاثة عشر عامًا عجاف. اتسمت تلك السنوات
بقمع دموي مفرط، فخرجت مقاومة مسلحة ضد العسكر بادلت العنف بالعنف.
تم
اختفاء وتعذيب وقتل عشرات الآلاف من المعارضين- أو «أعداء الدولة» كما
أطلق عليهم العسكر، منهم طلبة وصحفيين وعمال وأساتذة جامعة وكل من كان يتم
اعتباره يساريًا يدافع عن الفقراء.
كان
الجيش يسطو على المدن ويختطف المعارضة ويغتالها، وكان يتم شحن البعض منهم
في طائرات هليكوبتر للإلقاء بهم في النهر الفاصل بين الأرجنتين وأرجواي.
قام المجلس بقمع منظم للعمال المحليين في مصانع السيارات الأمريكية
والأوروبية الكبرى المتمركزة في الأرجنتين، مثل فورد وبيجو وفيات ومرسيدس،
لصالح أصحاب تلك المصانع. تعاطف المناضلون اليساريون مع هؤلاء العمال حتى
استولوا ذات مرة على مستعمرة بأكملها لإنتاج السيارات، وقاموا بقتل
واختطاف عشرات من الأمريكيين والأجانب من مديري المصانع المتواطئين مع
العسكر.
بالرغم
من تظاهر الإدارة الأمريكية في العلن بإدانة مجلس عسكر الأرجنتين
لانتهاكه لحقوق الإنسان، تمتع المجلس بدعم مالي وتسليحي ضخم من الولايات
المتحدة، وبموافقة الكونجرس. انهار اقتصاد البلاد، وحتى يصرف انتباه الشعب
عن المعاناة والدماء المراقة ويستعيد تعاطفه، اصطنع المجلس العسكري حربًا
وطنية ضد بريطانيا على منطقة جغرافية متنازع عليها، وكان ينتظر من
الولايات المتحدة مساندته في تلك الحرب، لكنها خلت به وساندت البريطانيين،
مُني العسكر بهزيمة ساحقة وفقدوا مصداقيتهم للأبد.
وأخيرًا
اضطر المجلس العسكري للاستقالة وترك الشعب ينتخب أول رئيس مدني له، وهو
راؤول ألفونسين الذي صعد للسلطة عام 1983. كان «ألفونسين» من البداية مرشح
رئاسي دكر، حيث وضع على قمة برنامجه الانتخابي معاقبة الجيش على جرائمه
وجلب حقوق الضحايا. فور تقلده منصبه، أصدر ألفونسين أمرًا بمحاكمة تسعة من
قيادات العسكر العليا بتهمة انتهاك حقوق الإنسان، وصدرت ضدهم أحكام قاسية
منها حبس اثنين من الرؤساء العسكريين السابقين أحدهما مدى الحياة والآخر
بتأبيدة.
وقام
ألفونسين أيضًا بتقليص ميزانية الجيش بدرجة شديدة وإعادة هيكلة المؤسسة
العسكرية في مجملها واضعًا إياها تحت سلطة المدنيين. واجه ألفونسين معضلة
فيما يتعلق بالتعامل مع ضباط الرتب الدنيا، حيث تورط هؤلاء في جرائم ولكن
بأوامر من قياداتهم، وكانوا متوترين ومستعدين للتمرد المسلح على الدولة
المدنية خوفًا من معاقبتهم، ولذلك قرر ألفونسين العفو عنهم لصالح استقرار
البلاد، فصدر قانون بعدم معاقبة كل من هو تحت رتبة مقدم. واكتمل تحقيق
العدالة بتشكيل لجنة وطنية لشؤون كل من تم اختفاؤه أثناء سنوات الحكم
العسكري وتعويض أهاليهم. تروي لنا البرازيل قصة مختلفة بعض الشيء. قام
الجيش بانقلاب عسكري على رئيس يساري منتخب وصعدوا للحكم عام 1964 في
البرازيل، واستمروا في السلطة لمدة عشرين عامًا حتى 1985. خرجت مقاومة
عنيفة مسلحة ضدهم من بين صفوف الطلبة واليساريين، الذين قاموا مرة باختطاف
سفير الولايات المتحدة في البرازيل لتواطؤ بلده مع النظام القمعي. لم يكن
عسكر البرازيل بدرجة عنف ودموية عسكر الأرجنتين، حيث كل من تم رصد
اختفائه أو قتله طوال تلك السنوات كان بضع مئات فقط من قوى المعارضة.
ولذلك بعد إزاحتهم لم يُصر أول رئيس
مدني
منتخب أو حتى الشعب نفسه على معاقبتهم بعقوبات قاسية. حصل الضحايا على
تعويضاتهم، وفي المقابل تم تطبيق قانون للعفو عن انتهاكات العسكر لحقوق
الإنسان. ولكن نص دستور الدولة الجديد على وضع القوات المسلحة تحت سلطة
رئيس الجمهورية. تخيل "رئيس أركان الجيش المصري" كدا واحدة ست، هذا ما حدث
في البرازيل بعد التخلص من حكم العسكر. عاد اليسار للسلطة عبر صناديق
الاقتراع، وكان لولا دي سيلفا الرئيس المنتخب عن حزب العمال بحق دكر في
مواجهة المؤسسة العسكرية. عند اكتشافه لممارسات فساد داخل الجيش، قام
بإقالة رئيس الأركان وتعيين سيدة مدنية بدلاً منه، وهي ديلما روزيف التي
شاركت في الماضي في حرب العصابات اليسارية ضد العسكر واعتقلها النظام لمدة
عامين وقام بتعذيبها بالضرب والصدمات الكهربائية، والمفاجأة الأكبر أنها
متخصصة في الاقتصاد وليس الدبابات.
شغلت
«ديلما» المنصب لمدة خمس سنوات، حتى فازت في العام الماضي بمنصب رئيسة
الجمهورية ممثلة أيضًا لحزب العمال اليساري. في ظل لولا وديلما، نجحت
البرازيل باقتدار في الصعود من صفوف دول العالم الثالث الفقيرة إلى مصاف
الدول الصناعية العظمى المتقدمة، بل قامت بسداد كل ديونها لصندوق النقد
الدولي. تنحصر مهمة الجيش البرازيلي الآن في الحماية الداخلية، بالأخص
أثناء مباريات كرة القدم الكبرى، وفي مساعدة الشرطة في الحد من الجريمة،
ويديرون بعض المؤسسات التعليمية المرتبطة بمجالهم مثل معهد تكنولوجيا
الطيران، ويساعدون في شق الطرق وبناء الكباري والبرامج الصحية. أخيرًا،
تخبرنا شيلي بقصة مضحكة. حاول الجنرال بينوشية آخر ديكتاتور عسكري فيها أن
يحتفظ لنفسه ورجاله بحصانات ونفوذ بعد ذهابهم، ولكن أتت الرياح بما لا
تشتهي السفن.
استمر
حكم العسكر في شيلي من عام 1973 حتى 1990، وأثناء تلك الفترة مرر بينوشية
قانونًا للعفو عن العسكريين من جرائمهم، وطبق سياسية اقتصادية
نيوليبرالية تٌحابي رجال الأعمال على النمط الأمريكي، وبلغت ثروته مليارات
الدولارات. بعد تسليمه السلطة لرئيس منتخب، احتفظ بينوشية لنفسه بمنصب
القائد الأعلى للقوات المسلحة وحرص على أن تتمتع الحكومة بدور ضئيل للغاية
في مراقبة ميزانية الجيش، بل منح نفسه مقعدًا مدى الحياة في البرلمان. ظل
الجنرال حرًا طليقًا لعدة سنوات، حتى أخيرًا جاء رئيس حمش- محامي
واقتصادي ممثلاً عن اليسار-- قام بإلقاء القبض عليه وتحديد إقامته في
منزله ومحاكمته. هامش : هذا المقال كتبته الدكتورة زينب أبو المجد ، أستاذ
التاريخ والاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية في القاهرة ، ونشرته في
صحيفة "المصري اليوم" بتاريخ الثلاثاء السابع عشر من أبريل لعام 2012 ، أي
قبل عامين تقريبا من الآن .
إرسال تعليق
ياكريم نيوز | هو مواقع اخباري يهتم بالشان العربي والعالمي ينقل لكم الخبر كما هو
Emoticonمن مواقع اخر فتقع المسئولية الخبار علي المصدر
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.