مشروع قناة السويس لصاحبه السيسي فاشل كما كان مشروع قناة السويس لمرسي فاشلاً، ولا يوجد خلاف جوهري بين المشروعين كما يزعم البعض.
كتب كثيرون عن التفاصيل الفنية للمشروع، ولكننا نركز على الأبعاد
الاستراتيجية. فهذا المشروع عند مرسي وعند السيسي يعكس فكرة اقتصاد
الترانزيت، ومحاولة تحويل مصر إلى دبي او سنغافورة، والمفترض أن موقعها
أكثر استراتيجية منهما.وبالفعل فقد كانت مصر نقطة ترانزيت للتجارة العالمية
بين أوروبا وآسيا من قديم الأزل، بعد ان عرف اليونان والرومان طريق الهند
من خلال البحر الأحمر. كانت بمصر قناة تربط البحرين المتوسط والأحمر قبل
قناة السويس، أو يستخدم النقل البري بين السويس والاسكندرية وبالعكس، ولكن
مصر لخطورة موقعها أكثر من دبي وسنغافورة، ولأنها مرشحة لأن تكون قائدة
للمنطقة فإن القوى العظمى لاترحب بدور مصر كترانزيت إلا إذا كانت تحت
السيطرة التامة.
وقد أدرك محمد علي بذكائه المعهود مخاطر شق قناة السويس وأنها ستكون مجلبة
للتدخل الأجنبي، واكتفى بتطوير الطريق بين الاسكندرية والسويس.وهذا ما لم
يدركه وريثه سعيد.
من يحكم بلد بعراقة مصر يجب أن يعرف أن اقتصادها وحياة سكانها لابد ان تقوم
على الاقتصاد الانتاجي وعلى العلم والتكنولوجيا، مصر مبدعة اختراع الكتابة
وأقدم نصوص مكتوبة قد وجدت في مصر وأقدم آثار في العالم هي أهرامات مصر
خاصة هرم زوسر، وسبق المصري شعوب العالم في صناعة الآلات الزراعية والفخار
والنسيج وفي التعدين خاصة من سيناء. وسبق المصري غيره من الشعوب في بناء
المدن وإقامة دولة واختراع الورق وليس صدفة ان كلمة ورق* بالانجليزية
وبالفرنسية من نبات البردي.
وسبق المصري العالم في الهندسة والري والطب والفلك والكيمياء. وقد أكدت
الحفريات أن الحضارة المصرية بدأت 14 ألف عام قبل الميلاد وليس 7 آلاف سنة
كما يردد الاعلام التافه.ونحن لانريد أن نردد الأسلوب التافه المبتذل لهذا
الاعلام السطحي الذي يكرر حكاية الـ 7 آلاف سنة على سبيل التفاخر
والعنطزة!! ولكن نذكر بهذا العمق التاريخي لقدرات مصر وشعبها وماذا يمكن أن
يفعل ؟ فنحن أمام مركز حضاري قديم لا يدانيه إلا حضارة وادي الرافدين
وحضارة الصين من حيث العراقة والقدم دون أن نقلل من المراكز الحضارية
الأخرى.
ومصر بالفعل عبر التاريخ ظلت دولة محورية في المنطقة والعالم سواء كانت قائدة أم محتلة!!
الأغلبية الساحقة ممن يعملون في الساحة السياسية لا يعرفون شيئاً حقيقياً
عن تاريخ مصر وهذا من ضمن أزمة النخبة الراهنة فهم لايعرفون إلا عناوين
شديدة العمومية من التعليم المدرسي الذي يزداد تخلفاً مع الأيام. وهذا من
أهم أسباب عدم إدراك النخبة العلمانية والاسلامية أن مركز مشكلات مصر في
تبعيتها للولايات المتحدة واسرائيل.
مصر لم تكن منتعشة اقتصادياً عبر التاريخ إلا في فترات استقلالها واعتمادها
على ذاتها في الانتاج والاقتصاد عموماً ثم على هامش ذلك تأتي مسألة
الترانزيت (التجارة العابرة)، ومصر لم تكن منتعشة اقتصادياً إلا عندما كانت
قائدة للمنطقة الممتدة من الصومال والسودان واليمن جنوباً إلى ليبيا غرباً
إلى الشام وأطرافه وادي الرافدين شمالاً وشرقاً وبعض جزر شرق المتوسط وفي
العهود الاسلامية (الحجاز) وكان النفوذ الثقافي المصري يصل إلى اليونان
ومناطق واسعة من الامبراطورية الرومانية (انتشار عبادة آمون وإيزيس والفنون
المصرية) ولم تكن هذه المروحة الواسعة من الريادة والنفوذ بسبب القوة
العسكرية وحدها، فلم يحدث أن ذهبت حملة عسكرية لبلاد بونت (الصومال) او
بلاد اليونان، مثلاً، ولكن النفوذ المصري اعتمد أساساً على النهضة الحضارية
المصرية وكان عمادها الاقتصاد الانتاجي المتطور والذي يعتمد على البحث
العلمي والتكنولوجي. ولذلك جاء أهل اليونان وأهل الشمال (الشام) ليتعلموا
الهنددسة والطب والفلسفة والرياضيات والفلك وكل التطبيقات التكنولوجية
وأيضا أساليب بناء الدولة وإدارة الحكم من هؤلاء: أفلاطون وكريسبوس الطبيب
ويودوكسوس الفلكي على سبيل المثال.وحتى عندما وقعت مصر في يد البطالمة
الأوروبيين تمصروا في دينهم وتحول مركز مصر الحضاري من طيبة إلى الاسكندرية
والتي أصبحت فيها الجامعة الأولى في البحر المتوسط وفي العالم. وكانت
الاسكندرية أغنى مدينة في البحر المتوسط وكانت المصدر الأساسي للقمح
للامبراطورية الرومانية لذلك خططت طويلا لضمها.
وتصف كتب التاريخ الاسكندرية بأنها (مدينة غزيرة الانتاج وافرة الثراء
وسكانها على أكبر قدر من الذكاء) أو (ان الاسكندرية هي بنت أفروديت وان
الانسان ليجد فيها كل شئ: ثروة- ملاعب- جيشاً كبيراً- سماءاً صافية- معارض
عامة- فلاسفة ومعادن ثمينة ومبنى ملكيا طيباومجمعاً للعلوم) هروداس.
وعندما تم ضم مصر للامبراطورية الرومانية ظلت الاسكندرية هي العلصمة
العلمية والاقتصادية للبحر االمتوسط، وكانت بطبيعة الحال هي عاصمة مصر.
وتواصل هذا عبر التاريخ الاسلامي، أي هذا الدور الريادي لمصر المرتبط
باذدهارها الاقتصادي القائم على العمل المنتج وليس على الترانزيت. ولكن جار
الزمن على مصر وأصبح يحكمها من لايعلم قيمتها من السادات إلى السيسي،
وجميعهم لايفكرون إلا في التجارة والاستثمار مع الغرب، وتأسرهم فكرة اقتصاد
الترانزينت والخدمات وهي تشمل مجالات السياحة، وتحويلات العاملين بالخارج،
ودخل قناة السويس .
مشروع ازدواج مجرى قناة السويس أو بالأحرى استكمال الازدواج الموجود فعلاً
في شرق التفريعة في شمال القناة يستهدف بالأساس زيادة دخل القناة بضع
مليارات من الدولارات4 أو 5!! وهذه عقلية في منتهى التفاهة أن تسمي هذا
مشروعاً قومياً، إن 4 أو 5 مليارات من الدولارات هو دخل أسبوعي لكثير من
الشركات الصناعية الآسيوية. ومن ضمن سخافة الساسة والاعلاميين انهم شغلوا
الشعب منذ سنوات في الحديث عن تحصيل رسوم القناة بالجنيه المصري بدلاً من
الدولار، بينما لايدري المتحاورون أنهم يتحدثون عن فكة من الملاليم بمعايير
اقتصاديات اليوم، ان مبلغ 4 أو 5 مليارات في السنة مبلغ تافه لايسمن ولا
يغني من جوع ولابأس به ولكن لاداعي للطنطنة الكثيرة حوله كمشروع قومي!!
سيقولون: هناك مشروعات كثيرة ستبنى حول القناة، تخزين واصلاحات وصيانة
ومختلف الأمور اللوجيستية، وهذا أيضا يدخل في نطاق اقتصاد الترانزيت،
ويعتمد على الشركات العالمية الكبرى (المتعددة الجنسية) وهذه الشركات تخضع
في قراراتها الاستراتيجية للدول العظمى، المسيطرة على الاقتصاد العالمي
وعلى رأسها أمريكا، وهذه لن تنزل بثقلها إلا إذا كانت مصر تحت السيطرة
تماماً، ومصر تحت السيطرة منذ 40 عاماً، ولكنها غير مضمونة ويمكن أن تفلت
من أصابع أمريكا في أي لحظة، وقد ثبت أنها قابلة للتغييرات (ثورة 2011)،
وبالتالي لا نتصور أن تنزل الشركات العالمية بثقلها لجعل مصر في مستوى
سنغافورة، وربما تقوم بأعمال محدودة قابلة للاغلاق ثم الرحيل بسهولة إذا
تغيرت السلطة في مصر.
ثم هناك نقطة بالغة الأهمية فقناة السويس لايمر بها إلا 8% - 10% من
التجارة الدولية وهي نسبة ضئيلة. والعالم يبحث دائماً عن بدائل (خاصة وقد
أُغلقت القناة فعلا من( 1967-1975) كبناء الناقلات العملاقة التي تدور حول
رأس الرجاء الصالح، أو انشاء قناة عند القطب الشمالي بل هناك خط ملاحي
فعلاً بين آسيا وأمريكا وأوروبا عبره. وهناك خط القطار الذي تبنيه اسرائيل
بين ايلات وأسدود وهذا منافس للقناة على نفس الخط. ومن أهم أسباب تراجع
قناة السويس أن مركز الاقتصاد العالمي أصبح في المحيط الهادي بين آسيا
وأمريكا. وهناك خط الحرير البري االذي يجري استكماله من الصين إلى تركيا ثم
إلى أوروبا، وهناك تصدير الغاز والبترول بأنابيب من روسيا ووسط آسيا إلى
أوروبا..الخ طبعا تظل قناة السويس مهمة بين آسيا وأوروبا ولايستغنى العالم
عنها في حدود النقل ولكن الحلف الصهيوني الأمريكي لايريد لمصرأن تكون
مارداً اقتصادياً بأي معنى من المعاني، بالتالي لايريد أن تكون قناة السويس
أهم مركز لوجيستي في العالم ، لأن هذا يدخل أموالاً طائلة للخزانة
المصرية، وهناك ألف وسيلة لمنع ذلك، ومصر لاتستطيع مواجهة ذلك لأن قواعد
هذه اللعبة ليست في يدها، وأكبر شركات الشحن ليست تحت امرتها..الخ
المشكلة أن عقلية اقتصاد الترانزيت التي قد تصلح للبنان ودبي ماتزال تسيطر
على حكام هذا البلد المنكوب (مصر)، مع ملاحظة أن الوضع السياسي في هذه
المنطقة المركزية من العالم والصراع العربي الاسرائيلي، دمر نموذج لبنان
كترانزيت وسياحة، والأردن يعيش على حافة الهاوية.. ويعيش على حقن المعونات
والدعم المالي. حكامنا سيطر عليهم فكر الترانزيت فيتحدثون عن مركز لوجيستي
للحبوب في دمياط، ومدينة تجارية على البحر الأحمر ومشروعات كثيرة عن
استثمارات في مجال التسوق (المولات!!) وإذا تتبعت كل التصريحات والقرارات
الاقتصادية خلال هذا العهد السيسي ستجد 90% منها حول التجارة الداخلية
والترانزيت والسياحة والبنية التحتية، وهي نفس سياسات مبارك التي ضيعت مصر
على مدار 30 سنة.
التركيز على القاعدة الصناعية التقليدية مع استحداث صناعة تكنولوجية متطورة
علمياً مع توظيف ابداعات البحث العلمي المدفونة وهي من انتاج المصريين لحل
مشكلات مصر كل هذا غير موجود، وهو ما لم ينتبه له حكم الاخوان ولكننا
لانريد أن نركز عليه لأنه لم يستمر إلا عاما واحداً ولكن الأفكار المطروحة
كانت عموماً في نفس سياق نظام مبارك مع تعديلات غير جوهرية، ولكن نركز على
الوضع الراهن، مسئول حكومي (رئيس الشركة القابضة للكيماويات) أكد أن
الصناعة المصرية تعمل بـ 50% من طاقتها بعد 17 شهراً من حكم السيسي أي مجرد
تنشيط الطاقات العاطلة لم يحقق أي تقدم إن لم يكن حدث تأخر. ومن الطبيعي
أن تؤكد أرقام الصادرات في النصف الأول من عام 2014 تراجع ملحوظ مع كل
بلدان العالم، وهذا مؤشر مهم لأن الصادرات تعكس الحالة الانتاجية، وما
قلناه عن قناة السويس ينطبق على مركز دمياط للحبوب والمدينة التجارية على
البحر الأحمر. أما مسألة المؤتمر الاقتصادي في مارس القادم أي بعد 4 شهور
وهي مدة طويلة بالنسبة للأزمات الحالية، فهو حالة أخرى من فقدان الاتجاه،
ان خطط التنمية والنهوض تكون وطنية ومحلية وليس في مؤتمرات دولية، لم نسمع
عن أي بلد حدثت فيه نهضة عن طريق مؤتمر دولي اقتصادي، وهذه مُزحة ثقيلة في
وقت لايحتمل فيه المزاح. ممكن عمل مؤتمر دولي لإغاثة مجتمع منكوب!! وليس
لعمل خطة تنموية اقتصادية. فالخطة الاقتصادية تختلف من بلد لبلد وأهل مكة
أدرى بشعابها. كما أن الاستثمار ليس عملية علمية محايدة، فكل دولة لها
مصالحها وأولوياتها، وبالتالي فإن جمع بلاد الشرق والغرب لبحث الاستثمار في
مصر مسألة هزلية، وتعكس أن مصر دولة منكوبة لاأكثر ولا أقل. فالأساس أن
نضع نحن خطتنا الوطنية وتعبئة استثماراتنا ومدخراتنا الوطنية ثم وضع خطة
للتعاون الاقليمي ثم تحديد المجالات التي قد نحتاج فيها للاستثمار الأجنبي،
ونبحث ذلك في علاقات ثنائية أو من خلال عطاءات ومناقصات ومزايدات دولية.
ولكن لن تقوم نهضة على أساس قروض أو منح أو حتى استثمارات أجنبية، هذا فكر
حكم مبارك الذي خرب البلد، وتابعه مرسي في جملة اعتراضية قصيرة، وها هو
السيسي يواصل نفس الطريق وبالتالي أضفنا 4 سنوات من الضياع فوق 30 سنة.
التركيز على القطاعات الانتاجية هو الحل..الصناعة أولاً.. ثم إنقاذ ما يمكن
إنقاذه من الزراعة، ثورة حقيقية في البحث العلمي اركانها ومقوماتها متوفرة
بالفعل بالعلماء المصريين داخل وخارج مصر، بداية ثورة في التعليم
المتهالك، وهذا يحتاج لمقال مستقل.
ولكن حتى هذا الوقت نذكر بالهند التي كانت خلفنا اقتصادياً وعلمياً أنها
أرسلت مركبة غير مأهولة للقمر عام 2010 وفي الشهر الماضي اكتوبر 2014 أرسلت
مركبة تدور حول المريخ بل بدأت الدوران بالفعل ونجحت من المرة الأولى على
خلاف روسيا وأمريكا . وانها لم تكلفها إلا 50 مليون يورو.
وهذه الانجازات العلمية ليست فانتازيا، بل ترتبط بعمليات التنمية، وتستخدم
الهند الأقمار الصناعية في التعليم والارشاد الزراعي وتوجيه صيد الأسماك،
وتحسين الاتصالات الهاتفية، بينما نحن غارقين في التفاهات والصراعات
الجانبية، ومشكلات الطرق والتلاميذ الذين يعذبون في المدارس، واعلان حرب
عالمية على الارهاب (بالمناسبة الهند لاتخلو من العنف أبدا) وحرب طائفية
على الاسلام، وحل مشكلات الاسكان بشقق ثمنها نصف مليون جنيه.. ولكن لماذا
استبقتنا الهند وغيرها من دول آسيا وأمريكا اللاتينية
إرسال تعليق
ياكريم نيوز | هو مواقع اخباري يهتم بالشان العربي والعالمي ينقل لكم الخبر كما هو
من مواقع اخر فتقع المسئولية الخبار علي المصدر