0


ثمّة وجهة نظر تحليلية يتعاظم صداها منذ 11 فبراير 2011، تذهب إلى أنّ صراعًا بين أجهزةٍ داخل الدولة المصرية العتيقة، هو الذي أدى في النهاية إلى إعلان المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة المصرية “تنحي” الرئيس الأسبق محمد حُسني مُبارك، في مشهد يُفضل البعض وصفه بانحياز الجيش المصري إلى مطالب الشعب.

وجهة النظر هذه تفصل بين جناحين أو جبهتين داخل الدولة المصرية، الأوّل يتمثل في المُؤسسة العسكرية ورجالاتها المنتشرين في مفاصل الدولة، والثاني يرتكز على مزيجٍ من رجال الأعمال والشرطة المصرية، ساهم في صعوده جمال مُبارك، الذي – فيما يبدو أنه – كان يعتقد أن خلق هذا المزيج ضروري للمضي قُدمًا في خطة التوريث التي واجهتها أخيرًا عقبة ثورة يناير.

وينطلق هذا التحليل من قراءة تاريخية لشكل الدولة المصرية منذ حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952، مرورًا بعصر السادات الذي جمع بين التطبيع مع إسرائيل من جهة وتطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي من جهة أخرى، ثُم صعود مشروع التوريث في أواخر عهد مُبارك، نهايةً بثورة 25 يناير، وما بدا انحيازًا من الجيش للثورة الديمقراطية.

وتُعد الانتخابات البرلمانية في 2010 الحلقة الأخيرة الأكثر وضوحًا في الصراع بين جناحي السلطة، حين شارك الحزب الوطني بمرشحين اثنين عن كل مقعد، يُمثل كل واحد منهما أحد جناحي السلطة. لكنّ الارتدادات التي شهدتها الفترة اللاحقة على 25 يناير كشفت بصورة أجلى عن الصراع الخفي بين الجناحين اللذيْن تمايزت صفوفهما، حتى وصل الأمر إلى حد الاشتباك المسلح بين الشرطة والجيش في عدة مواقف، يُذكر من طريفها ترديد أفراد الشرطة هتاف “يسقط حكم العسكر” في الوقت الذي ردد فيه العسكريون هتاف “الداخلية بلطجية”!



وقد يُرى هذا الصراع في سياقٍ يقضي بشكل أو بآخر على مزاعم مدنية الدولة المصرية، التي يتنازعها الآن، وبصورة أكثر وضوحًا، جهازان أمنيّان كل منهما له مصالحه التي تتقاطع مع مصالح رجال على أطراف السلطة، لكنّها في المقابل لا تتقاطع تمامًا مع مصالح السواد الأعظم من الشعب المصري، الذي تُدار ثروته الريعية في اتجاه واحد، من أسفل لأعلى، حيث النزاع بين جناحي الطبقة الحاكمة.

والآن تشهد الساحة السياسية المصرية ما يُعتبر أحدث فصول هذا الصراع، عبر النزاع داخل البرلمان الحالي بين طرفين يُشار في تقارير صحافية إلى أنّ أحدهما مدفوع من قبل جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقًا)، والآخر من قبل المؤسسة العسكرية، تحديدًا المُخابرات العسكرية.

الوجه الآخر لتوفيق عُكاشة

بعد إعلان فوزه في الانتخابات البرلمانية بمجموع أصوات هو الأعلى خلال الانتخابات بمراحلها، اختفى توفيق عُكاشة مُقدّم البرامج الشهير بأسلوبه المثير للجدل، لينكشف وجهٌ آخر لعكاشة المتحدث بالعربية الفصحى، وبجدية لم نعهدها عنه إلا في إطار هزلي. بدا ذلك واضحًا في لقائه مع الإعلامي خالد صلاح الذي سأله مُتعجبًا من جدّيته، ليجيبه عكاشة قائلا: “لكل مقام مقال”، مُوضحًا أن الأسلوب الذي اعتمده خلال السنوات الماضية، على قناته الفراعين، ليس إلا تطبيقًا لنظريات علمية إعلامية لتوجيه الرأي العام، حسبما قال.


وخلال الأسابيع اللاحقة لإعلان فوزه، بدأ عُكاشة يطرح نفسه عبر حملة قوية، كرئيسٍ قادمٍ للبرلمان المصري. دأب توفيق عُكاشة على زيارة مجلس الشعب حتى قبل افتتاح أولى جلسات البرلمان، وهُناك أدلى بتصريحاته الصحافية المُكرِّسة لكونه “بلا شك” الرئيس المنتظر للبرلمان المصري.

فجأة انقلبت الآية، تحوّل عُكاشة الواثق من موقفه، إلى عُكاشة طالب اللجوء السياسي لأية دولةٍ ستقبل به. بدا الأمر مُربكًا بعد جولةٍ من التراشق بينه وبين عدد من السياسيين والبرلمانيين الجُدد، دون أن يكون واضحًا سبب الصراع الحقيقي. في المُقابل، ما بدا واضحًا أن اصطفافًا ما يحدث في الساحة السياسية المصرية، البرلمانية منها على وجه الخصوص. اصطفاف بين فريقين كانا يومًا ما جميعًا في تأييدهم غير المشروط لنظام 3 يوليو، قبل أن يفترقا في مشهد اعتبره البعض صراعًا على كعكة السلطة.

وبخلاف ما هو معروف عن علاقته الوثيقة بصفوت الشريف، أحد أبرز رموز ما يُسمى بالحرس القديم في نظام مُبارك، والرجل المُقّرب من المؤسسة العسكرية على اعتبار خليفته كضابط مُخابرات سابق- لدى توفيق عُكاشة صِلاةٍ وثيقة بالأجهزة الأمنية، العسكرية منها على وجه التحديد، حتى أنّ أنباءً، لا يمكننا الجزم بصحتها، ترددت في 2012 عن أن قادة بعض قطاعات القوات المسلحة، أصدروا قرارًا يُلزم الضباط والجنود بمشاهدة قناة الفراعين التي يمتلكها.

وفضلًا عن ذلك، فلعائلة عكاشة تاريخ طويل مع القوات المُسلحة المصرية، إذ كان جده عبد الحميد الفقي، كبير مُعلمي الكلية الحربية في عهد الملك فاروق، والذي يزعم عُكاشة أنّه توسط لكل من عبد الناصر والسادات للالتحاق بالكلية.




توفيق عُكاشة الذي يعتبر البعض أنّه أوّل من بشّر بعبد الفتاح السيسي وزيرًا للدفاع حين كان لا يزال مديرًا للمخابرات الحربية في بداية عهد الرئيس المعزول محمد مُرسي؛ خاض صراعًا خاسرًا مع جهاز الأمن الوطني وممثليه داخل قبة البرلمان وفي وسائل الإعلام، بعد ما اعتبره غدًرا أحاق به من قبل وزارة الداخلية، أو كما قال: “أخدوني لحم ورموني عضم”، وذلك خلال لقائه مع الإعلامي يوسف الحسيني.

خلال هذا اللقاء وغيره من اللقاءات الإعلامية، أصر توفيق عُكاشه، بصفته برلمانيًا حينًا وإعلاميًا حينًا آخر، أن يوجه أصابع الاتهام إلى الأمن الوطني في تشكيل مشهد سياسي مُشوّه، بحسب تعبيره، بل اتهم أيضًا الأمن الوطني ومن خلفه وزارة الداخلية، وبين الحين والآخر المخابرات العامة، بعدم قدرته على استيعاب وجود حياة سياسية ديمقراطية والتعامل معها.

ورغم أنّ توفيق عكاشة تراجع عن موقفه هذا أخيرًا، يوم الثلاثاء 29 ديسمبر 2015، مُقدمًا اعتذاره لكل من تطاول في حقهم من “أجهزة سيادية” وقياداتها، وعلى رأسهم جهاز الأمن الوطني ووزير الداخلية مجدي عبد الغفار، إلا أن الزَّوبعة التي أثارها خلال الأيام الماضية، كشفت عن الكثير مما يبدو أنه لم يكن من المفترض الكشف عنه.

كيف تُدار الدولة المصرية؟

هذا ما بدا أن زوبعة توفيق عُكاشة قد أجابت عنه، بعد أن تصاعد الحديث عمّا يُسمّى اختصارًا بـ”الأجهزة”، سواءً من قبل عُكاشة نفسه، أو من قبل إعلاميين هاجموه، أو حتى من صحف مصرية تناولت ما حدث. أصبح واضحًا الآن أنّ هُناك أجهزة ما هي القائمة على إدارة الدولة المصرية ومقدراتها. توفيق عُكاشة قال ذلك بوضوح في خضم هجومه على وزارة الداخلية وقياداتها، وحين أشار أيضًا إلى دور المخابرات العامة، وبعض الشخصيات التي اتضح من حديثه أن لها ثقلا لا يمكن تجاوزه.

يُخطئ من يعتقد أن الدولة المصرية يتم إدارتها عبر عملية سياسية تُعبّر عن المصالح الطبقية والتوجهات الفكرية لأبناء هذا الوطن. ـ من كتاب الداخلية ومحاولة إحياء الموتى.
إنه نموذج “جمهورية الضباط” الذي وصفه الباحث الرئيس بمركز كارنيغي للشرق الأوسط، يزيد صايغ، بأنّه “فوق الدولة”، حين تحدث عن طبيعة الصراع الخفي حينها بين الجيش والشرطة التي تعاظم دورها في عهد مُبارك، مدللا على ذلك بتضاعف ميزانية الداخلية السنوية، خلال فترة حُكم مُبارك، 3 مرات بالمقارنة مع الزيادة التي حظيت بها وزارة الدفاع.

توفيق عُكاشة الذي صرّح بأنّه أوّل من جمع 13 ألف توكيل للإطاحة بمرسي سلّمها إلى المُخابرات الحربية، هو نفسه من قال خلال لقائه مع الإعلامي يوسف الحسيني، إنّ جهاز الأمن الوطني “يدير الحياة السياسية في مصر”، مُستشهدًا على ذلك بأنّ عددًا كبيرًا من النواب المستقلين أبلغوه أنّ ضُباطًا من الأمن الوطني طلبوا الاجتماع بهم.

  • الأمن الوطني ودعم الدولة المصرية

ويأتي حديث عُكاشة مُصدّقًا لما كشف عنه النائب عن حزب الوفد، بدوي عبد اللطيف، من أنّ ضباطًا في الأمن الوطني طلبوا من برلمانيين أن يجتمعوا بهم، وحثّوا آخرين على الانضمام لتحالف “دعم مصر”، الذي أسسه ضابط المُخابرات العامة السابق سامح سيف اليزل. وكان التحالف يُسمّى بـ”دعم الدولة المصرية”، وهو امتداد للقائمة الانتخابية التي كان تُسمى “في حب مصر”، والتي ضمّت بين صفوف مُرشحيها عددًا كبيرًا من المحسوبين على النظام السابق (نظام حُسني مُبارك).

ويُعرف عن سامح سيف اليزل علاقاته الوثيقة بالمؤسسة العسكرية المصرية، بسبب خدمته فيها فترةً طويلة، بالإضافة إلى رئاسته السابقة، وشراكته الحالية، للمكتب الإقليمي لشركة “جي فور إس – G4S” للخدمات الأمنية، التي تقول تقارير إنّ لها دورًا غامضًا في سيناء بالتوازي مع علاقاتها المشبوهة بإسرائيل، بينما يُؤكد اليزل على أنّ دور الشركة في سيناء لا يتعدى تأمين الفنادق والقرى السياحية.

مع هذا يبدو موقف سيف اليزل مُربكًا في ظل التدخل الصريح لجهاز الأمن الوطني في سير عمل تحالف دعم مصر، الذي يُعدّ حتى الآن الائتلاف الأكبر داخل البرلمان المصرية. أما ما أثار القلق بين أعضاء في الائتلاف، فهي الوثيقة التي أُجبر النواب على توقيعها بعد اتصالات من ضباط في الأمن الوطني، ومن بين هؤلاء النواب، بدوي عبد اللطيف، الذي قال في تصريحات صحافية إن الوثيقة “احتوت عبارات مطاطة، ولم توضح الرؤى العامة لها، كما لم تتضمن مطالب الشعب المصري”.

وبالإضافة إلى “العبارات المطاطة”، تضمّنت الوثيقة تعهدًا يُلزم النواب الموقعين عليها بالتجرد من انتماءاتهم الحزبية أو الفكرية، في الوقت الذي كان الائتلاف يضم فيه أحزابًا كاملة مثل الوفد ومستقبل وطن والمصريين الأحرار، قبل أن يعلنوا انسحابهم منه. يتضح إذًا أن سامح سيف اليزل – ومعه من يقف وراء ائتلافه من “الأجهزة” – كان يرى أنّ دعم الدولة المصرية، يعني انتفاء أي انتماء حزبي وفكري، وهي سمة تقليدية في الديكتاتوريات الكلاسيكية التي تُكرّس لتجاوز، بل إقصاء أي انتماء طبقي أو أيديولوجي، لصالح الانتماء لـ”الدولة”.




  • ثورة الدولة

لم يعد هناك حاجة إلى إخفاء طبيعة أحداث 30 يونيو، التي بات من كان في مُعسكرها ومن لا يزال، يُعلن على الملأ أنّ “الأجهزة” هي التي وقفت وراء ما يُمكن تسميته بثورة الدولة، في سياق صراع مُحتدم بين هذه الدولة بأجهزتها الأمنية ورجال أعمالها ووسائل إعلامهم، وفي القلب منهم جنرال يُمثّل ما أسماه يزيد صايغ بـ”شبكات عسكرية مُستديمة”. وكان صايغ قد رأى في أُغسطس 2012، إبان حُكم مرسي، أنّ هذه الشبكات العسكرية إن لم تُفكك “فسوف تستخدم نفوذها السياسي الواسع، وسيطرتها على الجيوب البيروقراطية والاقتصادية الرئيسة، لمنع مُرسي أو أي رئيس بعده من ممارسة السلطة الحقيقية، وإسقاط أي حكومة مُستقبلية لا تكون على مزاجها”، وهو ما حدث.



توفيق عُكاشة كان ممن أعلنوها على الملأ في خضم غضبته على الأجهزة السيادية، حين قال بوضوح إن جهاز الأمن الوطني “استغله” للإطاحة بالرئيس المعزول محمد مُرسي. ووفقًا لعكاشة فإن علاقته هذه بالأمن الوطني، هي علاقةٌ مكررة مع كافة الإعلاميين، وإن نفى يوسف الحسيني عن نفسه هذه التهمة، إلا أن عُكاشة أصر عليها، في إطار أن “الجميع كان يستهدف الإطاحة بحكم الإخوان”، أو كما قال.

من جانبه، كان عمرو أديب، الذي تتوجه إليه اتهامات قديمة بعلاقته بأمن الدولة، قد انفعل بشدة على ما اعتبره تجاوزًا من توفيق عُكاشة في حق “الأجهزة”. لكن مربط الفرس هو إسهاب أديب في كشف دور الأجهزة الأمنية، وإن بدا ذلك غير مقصود منه، إذ جاء في سياق هجومه على عكاشة الذي وصفه برجل الأجهزة السيادية المدلل.

وكما يتضح من حديث أديب إثبات علاقة الإعلاميين بالأجهزة الأمنية، ودور الأخيرة في الدفع نحو الإطاحة بمرسي؛ يتضح أيضًا كيف تُدار الدولة عبر هذه الأجهزة، فيما يُمثّل أديب أو عُكاشة أو غيرهما مُجرّد واجهة. ويُمكن رؤية ذلك في قول أديب: “الدولة بتقول لتوفيق عُكاشة: لأ بقى متهزرش معانا”، وقوله أيضًا: “انتو متخيلين إني أقدر أعمل ربع اللي بيعمله عكاشة”، وذلك في سياق التأكيد على أن الأخير الرجل المدلل للأجهزة السيادية. يُضاف إلى ذلك أيضًا قوله: “لا يصح أن تستفيد من الأجهزة دون أن تعمل معها”.

وفي جملته يحمل حديث عمرو أديب اعترافًا، لا يُمكن تجاوزه بحال، بأنّ كل ما يحدث في إطارٍ مدني، تُحركه في النهاية الأجهزة الأمنية، التي يربط بعفوية بينها وبين الدولة، في مشهد يدفع للتفكير مرة أُخرى في مفهوم الدولة وحقيقة مزاعم مدنيتها في مصر. من ذلك قوله بصيغة استنكارية: “احنا ممكن نصدق ما يقال!”، في إشارة منه إلى عدم تصديقه أن سبب منع توفيق عكاشة من الظهور على قناته لمدة 6 أشهر، جاء بسبب إخلاله بميثاق الشرف الإعلامي، وفقًا لما ينص عليه قرار المنع الصادر عن إدارة المناطق الحرة بالهيئة العامة للاستثمار، وذلك قبل أن يُسهب في الحديث عن “الأجهزة” ودورها وطبيعة العلاقات معها.



مع هذا، ومع كل ما تمر به مصر من أحداث منذ 3 يوليو 2013 – بل سنجازف بالقول منذ 11 فبراير 2011- في رأيك، هل كانت الدولة المصرية يومًا، دولةً مدنية تُدار وفقًا لعملية تدافع سياسي تُعبّر أطرافها عن مصالح طبقية وأيديولوجية تمثل فئات الشعب؟ أم أنّها كانت ولا تزال دولة “الأجهزة” المُتصارعة على الثروة المنزوحة من أسفل؟
المصدر ساسا بوست

إرسال تعليق

ياكريم نيوز | هو مواقع اخباري يهتم بالشان العربي والعالمي ينقل لكم الخبر كما هو
من مواقع اخر فتقع المسئولية الخبار علي المصدر

 
Top